|   24 أبريل 2024م

التسامح والمودة وكرم الضيافة التي لقيها الرحالة الأوربيون والأمريكان الذين زاروا عُمان في القرنين التاسع عشر والعشرين(1)*

الدكتور سليمان بن سالم الحسيني

مركز الخليل للدراسات والبحوث

مقدمة:

يقول الطبيب الأمريكي بول هريسون  الذي عاش في عُمان بين(1928-1938م)ومؤلف كتاب "رحلة طبيب في الجزيرة العربية": "عُمان أرض التسامح والكرم". ومثل هذه العبارة ترد بكثرة في مؤلفات الرحالة الأوربيين والأمريكيين الذي زاروا عمان وعاشوا فيها في القرنين التاسع عشر والعشرين الماضيين.  فكان التجوال في عمان، وغيرها من أجزاء الجزيرة العربية، واكتشاف ربوعها والتواصل مع سكانها الأصليين ومعرفة ثقافتهم والتعرف على الإسلام يعتبر إنجازا علميا غير مسبوق. وقد يكون الرحالة الذين جاءوا إلى عُمان نظروا إلى المجتمع العُماني من زوايا مختلفة إلا أنهم كلهم قد أجمعوا أن من التقوا بهم من العمانيين كانوا كرماء وودودين ومتسامحين.

بناء على ما سبق، تسلط الورقة البحثية الحالية الضوء على مفهوم الرحالة الأوربيين والأمريكان لكرم الضيافة والتسامح الذي لاحظوه لدى المجتمع العماني ووجهة نظرهم في دوافع المجتمع العماني من احترام الآخر وتقدير انتماءه الثقافي والديني.

الرحالة الأوربيون والأمريكيون في عُمان:

في 1887م وصل إلى عُمان ضابط البحرية البريطانية فليكس تيكاري هيج في إطار جولة في شبه الجزيرة العربية كلفته بها الجمعية الإرسالية الكنسية البريطانية. وكان الهدف من الجولة الحصول على معلومات أولية من أرض الواقع عن الأماكن التي يمكن فيها إنشاء مراكز تنصيرية لمؤسسات الكنسية الغربية في شبه الجزيرة العربية. فإضافة إلى جولاته في ربوع مسقط ومطرح قام الجنرال هيج برحلة على ظهور الجمال وصل فيها إلى مدينة سمائل. وقد أتاحة هذه الرحلة للجنرال هيج التواصل مع أبناء المجتمع والحديث إليهم والتعرف منهم على المستوى الثقافي والعلمي للبلد. وقد كتب الجنرال هيج قائلا "كان جميع النَّاس الَّذين رأيتُهم على مستوًى جيِّدٍ من المدنية. وقد وفَّرُوا لإقامتي بيتًا جيِّدًا. ولم أرَ قطُّ وجوهًا عربيَّةً خالصةً كوجوههم. وإنَّ البقاء بينهم يبعث على السُّرور مقارنةً بالمناطق السَّاحليَّة، حيث تختلط الأعراق وتتنوَّع الوجوه.النَّاس هنا كلَّهم محمَّديُّون ملتزمون بدينهم. وكنتُ أتمنَّى أن أرى ما يثبت صحَّة وصف (بَالْجْرِيفْ) لهم، لكنْ أؤكِّد أنَّ وصفي لهم صحيح؛ فكلُّ قريةٍ بها مسجدٌ، ويوجد مستوًى جيِّدٌ من التَّعليم في سمائل؛ إذ إنَّهم يتعلَّمون القراءة. وحسب ظنِّي أنَّ عددًا كبيرًا من الرِّجال يتعلَّمون القرآن في صغرهم، لكن ينسونه بأكمله عندما يكبرون. وهناك أيضًا عددٌ كبيرٌ من المدارس، فقد رأيتُ في جولةٍ قصيرةٍ ذات صباحٍ عددًا كبيرًا من المدارس، حيث يجلس المدرِّس تحت ظلِّ شجرةٍ، ويجلس حوله تلاميذه. كما أنَّ مصاحف القرآن متوافرةٌ بكثرةٍ وبأرخص الأثمان؛ حيث لا يتعدَّى سعر النُّسخة روبيَّةً واحدةً، وتُستورد المصاحف من بومباي. وقد أخبِرتُ بأنَّ كلَّ رجلٍ يستطيع قراءة القرآن لديه نسخةٌ من المصحف".

وقد كتب الجنرال هيج في نهاية رحلته تقريرا مفصلا عن عُمان وأهلها والوضع الديني. ووصف العُمانيين بأنهم شعب  صادق ومنفتح ومهذب. ويرى هيج أن سمة التسامح التي يتمتع بها العُمانيون ليست محصورة في سكان المدن الساحلية كمسقط ومطرح وإنما ظاهرة عامة يمكن ملاحظتها بوضوح كذلك بين سكان المناطق الداخلية. فعلى سبيل المثال، في إثناء زيارته لسمائل تم استقباله بحفاوة سمح له فيها بمناقشة المواضيع الدينية المتعلقة بالمسيحية والإسلام على حد سواء. يقول هيج "وممَّا أبهجني كثيراً ذانك الاجتماعان الحاشدان اللَّذان عُقِدا في مقرِّ إقامتي، وقد حضرهما أعيان البلدة بمن فيهم القاضي والقائد العسكريُّ في القلعة. وقد تحوَّل النِّقاش بأكمله في تلك الجلسة إلى المواضيع الدِّينيَّة. وبالرّغم من ضعف ملكتي بالعربيَّة إلا أنَّني كنتُ مؤهَّلًا إلى حدٍّ ما للخوض في مثل تلك المواضيع. كان القاضي رجلًا صغير السِّنِّ على المنصب الَّذي حُمِّله، إلا أنَّه رجلٌ طيِّبٌ صبوح الوجه. وقد طلبتُ منه عند مغادرته الجلسة أن يتقبَّل منِّي نسخًا من العهد الجديد- شاركوني الدُّعاء بأن يكون ذلك الكتاب مصدرَ سعادةٍ له. ويبدو أنَّ النَّاس هنا كلَّهم محمَّديُّون ملتزمون بدينهم".

كما أن هيج كتب عن ملاحظاته عن مدى التسامح الديني السائد في مسقط ومطرح قائلا: "يوجد الكثير من التجار الهندوس في مسقط ومطرح، وقد رأيت معبدا خارج أسوار مسقط". كما أكد هيج أن الناس كانوا متسامحين معه هو شخصيا عندما كان يقوم بالحديث عن ديانته في الأماكن العامة كالأسواق والطرقات. فقد كتب حول هذه النقطة قائلا: "عندما وصلت مسقط كانت لغتي العربية قد تحسنت إلى درجة أني أصبحت قادرا على مناقشة المواضيع الدينية. وكنت أذهب  مرارًا إلى السُّوق أحمل معي التَّوراة والإنجيل لأعرضهما للبيع، وأجذب اهتمام النَّاس إليهما على أنَّهما (كلمة الرَّب)، ولم أتعرَّض لأيِّ شيءٍ يصل إلى درجة الإهانة، وأتت المعارضة الجادَّة الوحيدة الَّتي تعرضتُ لها من قبل اثنين من المحمَّديِّين الهنود الَّلذين لا يُستبعد أن يكونا لاجئَين سياسيَّين. فبالعكس من ذلك، كان النَّاس سعداء في أن يروا رجلاً إنجليزيًّا يناقشهم بلغتهم في المسائل الدِّينيَّة. لقد بالغ النَّاس بشكلٍ غريبٍ في امتداح علمي بالعربيَّة وبراعتي في استعمالها، على الرّغم من أنَّها كانت لغةً متواضعة. كنتُ أحيانًا أحاط ببعض الحشود الَّتي تتراصُّ للاستماع إلى ما أقول، وفي بعض الأحيان يعينوني بقدر الاستطاعة على الحديث والتَّعبير عمَّا أريد أن أقول. وقد لقيتُ في المناطق الدَّاخليَّة من عُمان الحفاوة نفسها من قبل الطَّبقة العُليا، إلَّا أنَّني كنتُ ضيف السُّلطان ومسافرًا على جماله، وبصحبة عساكره؛ لذا فمن المحتمل بأنِّي قد أحطتُ بعنايةٍ أكثر من لو أنَّ الأمر كان خلاف ذلك".

إضافة إلى ما سبق، لاحظ هيج أن تسامح الناس مع أصحاب الديانات الأخرى كان متزامنا مع تمسكهم بالإسلام وتطبيقهم لتعاليم دينهم في حياتهم اليومية، يقول هيج: "بالرغم من تسامحهم مع أصحاب الديانات الأخرى إلا أنهم متمسكون بدينهم، بل إنهم أكثر تمسكا من الزيديين أهل اليمن، فهم محافظون على الصلوات اليومية، وكل قرية مررت بها كان بها مسجدا".

وقد أوضح هيج أن ما شاهده بنفسه من حيث الوضع الديني في عُمان، لا يتفق مع ما كتبه الرحالة البريطاني بالجريف. وفي واقع الأمر أن هيج لا يتفق مع بالجريف في موضوعين أساسيين حول الوضع الديني في عُمان. الموضوع الأول يتعلق بتمسك العُمانيين بالإسلام وتطبيق تعاليمه في حياتهم اليومية. ففي الوقت الذي قال فيه هيج أن العُمانيين محافظون على الصلوات اليومية وأن كل قرية مر بها كان بها مسجدا، ادعى بالجريف أن العُمانيين "نادرا ما يتجمعون لأي شكل من أشكال العبادة، وأن صلاتهم تنفذ بتمتمات منخفضة وغير مسموعة مصحوبة بإماءات وحركات تختلف عن تلك التي يقوم بها المحمديون الآخرون".

ثانيا، أن هيج لم يتبع التعريف الخرافي والغريب الذي دبجه بالجريف عن الإباضية، بل صاغ تعريفا آخر أكثر واقعية. فقد أدعى بالجريف "أن الرجال العُمانيون اتخذوا العمامة البيضاء رمزا لهم، ومن تلك العمامة البيضاء اكتسبوا تسميتهم إباضية أو بياضية، وهو الاسم الذي أصبح شائعا لكل أهل عُمان إلى الوقت الحاضر. فالإباضية مثل الدروز والإسماعيلية والنصيرية، خلطوا بعض ممارسات الصابئة والقرامطة مع بعض التحسينات التي أخذوها من الشريعة المحمدية التي أصبحت تميزهم عن المحمديين وتعطيهم التبرير بأنهم ينتسبون إليهم عندما يكونون معهم".

وبخلاف ما قاله بالجريف، يرى هيج "أن العُمانيين ينتمون، ما عدى قلة منهم، إلى المذهب الإباضي، أو اتباع عبدالله بن إباض، الذي سطع نجمه في القرن الثامن. وهم يختلفون عن المذاهب المحمدية الأخرى في قولهم بأن الإمامة بالانتخاب وليس بالوراثة. وخلافا عن بعض وجهات النظر المتعلقة بالقضاء والقدر والإجبار والاختيار التي لا تمس جانبا مهما من العقيدة، وإنما فحواها الاعتراف للرب بأنه هو خالق الخير والشر، فإن دينهم لا يختلف ماديا عن دين أكثر المحمديين المحافظين".

وبعيدا عن الاختلاف في وجهات نظرهم السابقة يتفق بالجريف وهيج في وصف العُمانيين بالتسامح والرجولة وحسن الخلق. فقد ذكر بالجريف "في الشجاعة والصلابة فإن أهل عُمان مميزون على غيرهم من العرب. فأهل الجبل الأخضر وجعلان مشهورون بشجاعتهم، إلا أن اندماجهم في التجارة والزراعة جعلهم لا يستعملون تلك الشجاعة بشكل عشوائي فيما لا فائدة من وراءه كالحروب والنهب. فهم كما خبرتهم حازمون، وغير مزاجيين، وكرماء، وبحق هم أكثر لطفا من غيرهم من أعراق الجزيرة العربية. والتسامح مع كل الأعراق والديانات والعادات موجود هنا بدرجة تفوق أوربا. فاليهود والمسيحيون والمحمديون والهندوس كلهم لهم أن يعبدوا الرب كما تمليه دياناتهم المتعددة، ويلبسون كما يشاؤون، ويتزاوجون ويتوارثون بدون عوائق، ويدفنون موتاهم أو يحرقونهم، فلا أحد يسألهم، ولا أحد يزعجهم، ولا أحد يعترض طريقهم".

وبما أن هدف هيج من زيارته لعُمان كان التعرف على إمكانية الشروع في عمل تنصيري في الوسط العُماني، فقد عبر عن انطباعه حول هذا الموضوع قائلا: ".. يبدو لي، بشكلٍ عامّ، أنَّ الطَّريق الوحيد لتحويل هذا البلد [عُمان] إلى المسيحيَّة سيكون بوساطة الرُّسل؛ وهم رجالٌ لديهم مَلكةٌ تامَّةٌ باللُّغة العربيَّة، وبعض المعرفة بأدب العرب، ومعرفةٌ كاملةٌ بالمحمَّديَّة؛ حيث يذهبون للقراءة، والوعظ، والتَّدريس أينما وجدوا آذانًا مُصغيةً لهم… وإنَّني أميل إلى الاعتقاد بأنَّ شخصًا عربيًّا يتجوَّل بين النَّاس يعظهم، ويدرِّسهم بطريقةٍ حكيمةٍ ومحبِّبةٍ إليهم، سوف لن يلقى أيَّ معارضةٍ منهم. فهل يريد الرُّسل أيَّ شيءٍ أكثر من هذا؟…".   ولو لم يلاحظ  هيج أن التجوال في ربوع عمان آمن للغربيين لما أقترح لهم أن يمارسوا أسلوب التنصير القائم على التنقل والتجوال بين الناس في القرى والمدن.

وفي العدد القادم من "إشراقة" نواصل الحديث عن وصول القس الإنجليكاني توماس فالبي فرنش قادما من بريطانيا إلى مسقط وما كتبه عن رحلته إلى عُمان و رأيه في المجتمع العماني.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ورقة بحثية مقدمة في المؤتمرُ السادس للفكر الإباضي الذي عقد تحت عنوان "الفكر الإصلاحي للمدارس الفكرية الإسلامية في العصر الحديث"، 1-3 يونيو 2015، بمعهد المخطوطات الشرقية بالأكاديمية العلمية الروسية بمدينة سانت بطرسبيرج بجمهورية روسيا الاتحادية.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

*المقال من ملحق إشراقة العدد 100 ، أكتوبر 2015م