|   28 مارس 2024م

تغرب عن الأوطان في طلب العلى --- وسافر ففي الأسفار خمس فوائـد
تفريـج هـم واكتسـاب معيشـةٍ --- وعلـمٍ وآدابٍ وصحبـة مـاجـد

 

هذه سلسلة من الحلقات أتناول فيها ملاحظاتي ومشاهداتي وتجاربي في السفر خارج الوطن وداخله... فالسفر ليس متعة وحسب بل مدرسة مفتوحة على أمم الأرض وحضارات العالم وثقافات الآخر ومكتسباتهم وأسلوب حياتهم... 

سليمان بن سالم الحسيني

مركز الخليل بن أحمد الفراهيدي،

Salhusseini@unizwa.edu.om 

1

مدينة نفطة التونسية قرينة المدن العمانية

عندما تقف على الروابي الغربية للمدينة وتنظر منها إلى مزارع النخيل الممتدة أمامك من الشمال إلى الجنوب تخال نفسك بأنك في أحد المدن العمانية... وعندما تسير في حاراتها وبين البيوت المبنية بالطابع العربي الإسلامي وتدخل مساجدها القديمة تخال نفسك بأنك في أحد المدن العمانية... وعندما يضيفك أهلها على القهوة والتمر تخال نفسك في أحد المدن العمانية.

إنها مدينة نفطة التونسية التابعة لولاية توزر بالجريد التونسي، أتيحت لي فرصة زيارتها في أثناء رحلة سياحية على هامش ندوة كتاب السير الذي نظمتها جمعية جربة التواصل بالعاصمة تونس في نهاية شهر أكتوبر وبداية نوفمبر 2016.

منطقة الجريد التونسي التي تقع فيها مدينة نفطة تختلف عن مناطق الشمال التونسي حيث العاصمة تونس وغيرها من المدن القريبة من البحر الأبيض المتوسط التي تتعرض لمنسوب أمطار تجعل أرضها خضراء معشبة على مدار العام تقريبا. فالجريد التونسي يقع في منطقة صحراوية تمتاز بزراعة النخيل وتنتج أكثر من مأتي نوع من أجود أنواع التمور- منها تمر دجلة الشهير- وبها مخزون من المياه السطحية والجوفية التي تشكل شط الجريد الذي يُعَّد أعجوبة الجنوب الغربي التونسي وكتب عنه الرحالة والمؤرخون على مر العصور. وبسبب بيئتها الصحراوية ووفرت المياه الجوفية التي تتدفق على سطح الأرض ينابيع وعيون أصبحت نفطة وغيرها من مدن الجريد مثل توزر، ودجاش، وجابس، والحامة، وأم الصمعة، واحات صحراوية أو غابات من النخيل في وسط الصحراء الإفريقية.

أهل نفطة يتحدثون العربية، ولهجتهم التونسية عذبة مستساغة، وهم محافظون على القيم العربية الإسلامية الأصيلة ويتسمون بالبساطة والرحابة وحسن الاستقبال والمعاملة.  تسمى نفطة بالكوفة الصغرى كإشارة إلى تاريخها العريق ومكانتها العلمية واحتضانها لهجرات متلاحقة من القبائل العربية التي جاءت من المشرق العربي إلى جانب سكانها البربر الذين سكنوا تلك المناطق قبل الفتح الإسلامي. وإذ احتفظ أهل نفطة بسمات الأصالة التي تميزهم كمجتمع عربي مسلم، حافظوا على النمط المعماري المميز لمدينتهم الجميلة. فلا تزال الأبواب المصنعة بحرفية عالية من جريد النخيل تزين مداخل البيوت و الأحياء العريقة، ولا تزال المنشئات تبنى بالآجر (الطوب الطيني المحروق) المصنع تقليديا في المصنع الذي يديره الحاج المكسي الخنيسي الذي بلغ العقد السابع من عمره لكن لا يزال يعمل بجد وحيوية ونشاط ويتحدث بلغة المثقف وعقلية العالم.

تنقسم مدينة نفطة إلى منطقة بساتين النخيل ويطلقون عليها (غابة النخيل) ونادرا ما تجد فيها بيوت مسكونة، ومنطقة الأحياء السكنية التي تقع على ربوة تطل على غابة النخيل من جهتها الشمالية الغربية. تنقسم المنطقة السكنية إلى عدة أحياء وكل حي به مسجد، وأما سوق المدينة ومركزها التجاري فإنه يقع بالقرب من حي علقمة ذا الطابع المعماري المميز بأزقته الضيقة المتداخلة وبيوته المربعة ومساجده الأنيقة وبواباته المحصنة.  وفي الجزء الحديث من الأحياء السكنية توجد المدارس العصرية ومصانع التمور والمؤسسات الأهلية والحكومية. وبما أن نفطة مدينة صحراوية فهي، مثل المدن العمانية الصحراوية، تشتهر بتربية الجمال، ولا يزال النفطاويون يحتفظون بالعديد من العادات البدوية المرتبطة بتربيتها وتحتفظ ذاكرتهم التراثية بذكريات قوافل الجمال التي تعبر الصحراء الفسيحة بالناس والسلع بين دول القارة الإفريقية ومدنها وحواضرها.

مثلما اجتمعت في نفطة قبائل عربية وبربرية شتى هاجرت إليها في أزمان مختلفة، اجتمعت فيها مدارس دينية وفكرية متعددة أثرت تاريخ المدينة ونوعت تراثها الثقافي وموروثها الحضاري وجعلتها حاضرة بقوة في التاريخ الإسلامي بشكل عام والتاريخ التونسي بشكل خاص. ففي وسط مزارع النخيل تجد ضريح الشيخ أبو علي السني المالكي وفي المقابل له على ربوة بحي المقدمين تجد ضريح الشيخ أبو العباس الدرجيني  الإباضي وكلاهما من علماء القرن الخامس الهجري وكانت بينهما لقاءات علمية ونقاشات.  ومن أبناء نفطة الشيخ الخضر بن الحسين الذي ترقى في المنزلة العلمية حتى أصبح شيخ الأزهر في النصف الأول من القرن العشرين الميلادي. ومن مؤرخيها وكتابها وشعرائها وقصاصيها المشهورين مصطفى خريِّف وأخوه بشير خريِّف والميداني بن صالح، ومحمد مواعده، ومنور صمادح، وصالح باجيه الذين ترجمة بعض أعمالهم من العربية إلى اللغات العالمية.

يحمل عدد من أهل نفطة في ذاكرتهم ذكريات جميلة عن عُمان والعيش فيها. فقد عمل عدد لا بأس به من أهل نفطة في عُمان مدرسين وأساتذة في المدارس والكليات والجامعات العُمانية، وفي مقدمتهم المرحوم الدكتور صالح باجية الذي عمل في معهد السلطان قابوس بصلالة. وكان الدكتور باجيه من ضمن العلماء الذين اسندت إليهم مهمة مراجعة مخطوط القرآن الكريم الذي خطه بيده عبدالله بن بشير الصحاري في عام 1175هـ، وتم نشره بأوامر من صاحب الجلالة السلطان قابوس حفظه الله. ولا يزال الهادي باجيه نجل الدكتور صالح يحتفظ بملف من ذكريات والده في عُمان وصور من تجواله في ربوع جبال ظفار وأجوائها الخريفية.

يقوم أهل نفطة بجهود حثيثة لإحياء مكانة نفطة التاريخية كملتقى للثقافات والشعوب، وكنقطة عبور لقوافل التجار والمسافرين. وتكللت جهودهم بإنشاء جمعية تعنى بحوار الحضارات والأديان سيكون مقرها مدينة نفطة وهدفها التقريب بين أتباع الحضارات والثقافات والديانات لا سيما أتباع المذاهب الإسلامية والعمل على تصحيح التراث وبناء أسس التعايش السلمي والمستقبل المشترك. 

 

 

  

لقاء حافل في بيت المرحوم الدكتور صالح باجية بنفطة

 

الطابع العمراني في نفطة

 

الطابع العمراني في نفطة

 

 

 

 

 

مزارع النخيل في نفطة

 

 

 

 

 

 

 

*المقال من ملحق إشراقة العدد 103 ، ديسمبر 2015م