|   23 أبريل 2024م

سافر ففي الأسفار خمس فوائد(5)

في مدينة الجديدة المغربية لأجل الحوار والأخلاق والتاريخ

 

مدينة الجديدة المغربية تقع على المحيط الأطلسي، ينضح بموجه الهادر شواطئها الرملية  الناعمة، وتغيب في أفقه الشمس معلنة إسدال الليل على الوطن العربي كله، من (رأس الحد، بسلطنة عمان) أقصى نقطة في مشرقه، إلى (الرأس الأبيض، بالصحراء الغربية)  أقصى نقطة في مغربه.

مدينة الجديدة احتلها البرتغاليون أبان نزوتهم الاستعمارية الملوثة بدماء الأبرياء وامتهان الشعوب، وبنوا فيها قلعتهم الشهيرة وتحصيناتهم العسكرية (الحي البرتغالي)، مثلما احتلوا شقيقاتها من المدن العمانية، وبنوا في مسقط (قلعتي الجلالي والميراني) وفي مطرح (قلعة مطرح) التي تطل على بحر عُمان المنفتح شرقا على المحيط الهندي وشرق أفريقيا والهند وشرق آسيا.

كانت زيارتي لمدينة الجديدة المغربية في الفترة(2-6 إبريل 2016م) لأجل المشاركة بورقة بحثية في المؤتمر الدولي التكريمي الثالث، في موضوع "إشكال العلاقة بين الحوار والأخلاق، مشروع الفيلسوف طه عبدالرحمن نموذجا" والذي نظمه مخبر دراسات الترجمة والتواصل والآداب بجامعة شعيب الدكالي بالجديدة،  لذا فإن انطباعاتي التي تسمح لي بتسجيلها هذه النافذة من (إشراقة) خليط من جمال المكان، وعراقة التاريخ،  ونبل الإنسان، ومكانة العلم الرفيعة العالية في بلد عُرف بعلمائه وفلاسفته وأدباءه ومبدعيه.

المفكر والفيلسوف طه عبدالرحمن، احتفت به مدينة الجديدة بعلمائها ومشائخها وأساتذتها وطلابها ومسؤوليها أيما احتفاء، في هذا المؤتمر الذي نظم خصيصا لأجل تكريميه وتقديرا لجهوده العلمية في مجال الفكر والفلسفة والحوار والأخلاق.  جاء تلامذته والمتأثرون بفكره، والباحثون والحضور من مشرق الوطن العربي ومغربه ومن أوربا وأمريكا، وقد غمروه بحبهم طلابا ومريدين، وغمرهم بحبه أستاذا وشيخا وقدوة، في مشهد علمي تأثيري وتأثري قل ما يوجد مثله في وقتنا المعاصر.

ولكي أصفه، عالما، أقتبس مما كتبه عنه حمّو النقاري وهو أحد تلامذته في مقدمة كتابه "منطق تدبير الاختلاف من خلال أعمال طه عبدالرحمن": "طه عبدالرحمن المفكر، أحد الفلاسفة المسلمين العرب المعاصرين الذين تجلى فيهم، غاية التجلي، التزاوج الطبيعي والمفروض بين التبعية النسبية الأصلية والتبعية النسبية الفرعية، بوجه غير معهود جعل منه أسطوانة علمية بارزة تحلق ويتحلق حولها ثلة من الباحثين والمفكرين: فمن جهة تبعيته النسبية الأصلية، طه عبدالرحمن مفكر مسلم عربي، مسلم من جهة (المادة) وعربي من جهة (الصورة)... أما من جهة تبعيته النسبية الفرعية، فمحطات مسار تكَوُّن طه عبدالرحمن العلمي، خصوصا محطتي رسالة دكتوراه السلك الثالث... ورسالة دكتوراه الدولة... المناقشتين في جامعة السوربون بباريس، فتشهد للمجهود الكبير والاجتهاد المضنى اللذين بذلهما طه عبدالرحمن في استيعاب الفكر الفلسفي والفكر المنهجي والمنطقي الغربيين.. بتبعيته النسبية الأصيلة وتبعيته النسبية الفرعية جاء الإنتاج النظري لطه عبدالرحمن متسما بالإبداع والتجديد من خلال البناء على مسلمات استمدها مما صح عنده من انتسابه إلى أمة الإسلام من جهة وإلى أهل العربية من جهة ثانية، وإلى أهل التفلسف من جهة ثالثة. وتمثل إبداعات طه عبدالرحمن وتجديداته ثمرات ممارسة نظرية مخالفة للمعهود في التفلسف الإسلامي العربي".

جمعني المؤتمر بأساتذة وعلماء أجلاء ومفكرين وطلاب علم، منهم الأستاذ والأديب واللغوي الدكتور محمد الديباجي عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط وعضو المجلس العلمي بالجديدة سابقا. الدكتور الديباجي يكن في قلبه الكثير من الحب والشوق لعُمان والعُمانيين؛ قال لي: أن جده عُماني التقى به جده المغربي منذ مئتي سنة في الحج فزوجه بإبنته وهاجر معه إلى المغرب. بعث إلي برسالة عبر الفيسبوك وأنا في طريق عودتي إلى عُمان قائلا: "بلغ سلامي إلى عُمان وأهل عُمان وقل لهم بلساني:

فلو أسطيع طِرتُ إليك شوقاً   وكيف يطيرُ مقصوصُ الجناح

وكتل في نفس الرسالة بيتا آخر:

وقد يجمع الله الشتيتين بعدما   يظنان كل الظن ألا تلاقيا

الشخص الآخر الذي التقيته في أيام المؤتمر وغمرني بلطفه وبهرني بخلقه الخطاط المغربي عبدالعزيز مجيب الذي شَرُف بكتابة المصحف الشريف بالخط المغربي المبسوط، برواية ورش عن نافع، وهو ثاني خطاط مغربي يقوم بهذا العمل القيم لخدمة كتاب الله.

المغرب بلاد (مزيان) أنعم الله عليه وعلى أهله بخيرات كثيرة وحباه بجمال (زوين) في الطبيعة، وبه ما يجذب البصر ويشد الانتباه سواء في (العروبية) الريف أو (الحاضرة) المدن و(الدواوير) القرى.  مدينة الجديدة مدينة تاريخية عريقة، استثمرت سياحيا بفضل المقومات التي تتمتع بها كسواحلها الرملية والحي البرتغالي والأسواق الحديثة والتقليدية، وشوارعها المنظمة النظيفة، وأحيائها الراقية وضواحيها الجميلة، وجوها اللطيف المعتدل صيفا الذي يجذب إليه السواح من الدار البيضاء والرباط.

 تقع على مقربة من (الجديدة) مدينة (أزمور) التي تزدان بحقولها الخضراء التي يسقيها نهر (وادي أم الربيع) المتدفقة منابعه من جبال أطلس على بعد أكثر من 600 كم، الذي يمده بعد وصوله مدينة (خنيفر) نهر (العبيد) ونهر (وادي تيساوت) ونهر (الوادي الأخضر). اصطحبني في جولتي الصباحية إلى أزمور الخطاط المغربي عبدالعزيز وجيه، وعرفنا صديقه الأزموري من خلال جولة في (المدينة القديمة) التي يعود بنائها إلى عهد الاستعمار البرتغالي، على نمط الحياة والسكن في الحي المغربي التقليدي حيث تتعرج السكك الضيقة يمنة ويسرة وصعودا ونزولا بين البيوت والمساجد والمحلات ودور الصناعات التقليدية، مرننا عبر سكة ضيقة على مخابز الحي، حيث تعود أصحاب الحي أن يرسلوا بعجينهم في الصباح بعد أن يتم عجنه إلى  المخبز حيث يقوم الخبازون بوضعه في الفرن ليخرج به رغيفا لذيذا صحيا تتناوله العائلة على مائدة الغداء. وتشتهر الأحياء في المغرب بانتشار (الحمامات)، فكل حي به جامع يقع إلى قربه حمام، يخصص في بعض الأحياء للنساء صباحا، وفي المساء يفتح للرجال. وكما قيل لي أن الحمام عادة عثمانية انتقلت إلى المغرب وغيره من دول الشمال الإفريقي عن طريق المد العثماني في تلك البلاد.

كانت رحلة العودة من الجديدة إلى الدار البيضاء بالنسبة لي نوعية بكل المقاييس؛ وذلك بفضل (مصطفى القرن)، الذي أثبت لي أنه أكثر من مجرد سائق سيارة أجرة.  لم يكتف مصطفى بأن يأخذني عبر الطريق البحري عابرا منطقة (الولجة) لأرى الريف (العروبية) المغربي في بصورته البهية، بل أصر أن ندخل (دوار سيدي علي) لأرى القرية المغربية بأم عيني، ويخبرني عن التطور العمراني الذي تشهده مدينة (سيدي الرحال) و(حي النواصر) الذي يقع فيه مطار محمد الثاني، ويشرح لي عن حال (الفلاحة) ومواسم (الشتاء) المطر الذي تعتمد عليه الزراعة بشكل أساسي في المغرب. بل وشربنا سويا (اللبن العروبي)، وأكلنا (الدلاح) و(عزمني) على وجبة (الكسكس) في بيته فكان ذلك يوم الجمعة الذي تحرص الأسر المغربية فيه على أكل الكسكس للغداء.   

 

 

 

 

*المقال من ملحق إشراقة العدد 108 ،يونيو 2016م