|   29 مارس 2024م

التسامح والمودة وكرم الضيافة التي لقيها الرحالة الأوربيون والأمريكيون الذين زاروا عُمان في القرنين التاسع عشر والعشرين(2)*

                                                                                                                                                                                                                                                        الدكتور سليمان بن سالم الحسيني

مركز الخليل للدراسات والبحوث

تحدثنا في العدد السابق من ملحق إشراقة عما كتبه ضابط البحرية البريطانية فليكس تيكاري هيج في رحلته إلى عمان وما لمسه من كرم الضيافة وحسن المعاملة والتسامح الذي لقيه من العمانيين، واليوم نتوقف للحديث عن رحالة آخر زار عمان وكتب عنها..

ففي يوم الأحد الثامن من فبراير عام 1891م وصل إلى مسقط القس الإنجليكاني توماس فالبي فرنش قادما من بريطانيا. كان القس فرنش مستجيبا لنداء بعثه من أوغندا بإفريقيا القسيس الأكزندر ماكاي، يطالب فيه المؤسسات التنصيرية الغربية الشروع المباشر في عمل تنصيري في مسقط عاصمة عُمان. فقد ادعى ماكاي في نداءه: " لا يمكن المغالاة في تقدير أهميَّة مسقط كمركزٍ تنصيري وسط العرب؛ لذا يجب ألَّا يعمل في هذا الموقع موظَّفون ضعفاء؛ لأنَّ طبيعة الوضع تتطلَّب عملًا تبشيريًّا نفتخر به، يتضمَّن إلقاء الخطب في الأسواق. ومن الأفضل أن يركَّز الجهد في اتِّجاهين: الطِّب؛ حيث تشارك فيه نساءٌ مدرَّباتٌ يصبحن بمثابة المسكن الفعَّال للمعارضة. والتَّعليم؛ بحيث تكرس فيه الجهود بشكلٍ أساسيٍّ على تدريب الشَّباب العرب ليكونوا منصِّرين لأهل بلدتهم".

هذا، وقد وثق القس فرنش أنشطته وتفاصيل حياته اليومية في مسقط من خلال المذكرات اليومية والرسائل التي بعث بها بشكل يومي تقريبا إلى زوجته وابنته وأخيه وزملائه، وقد وصف نفسه في رسالة بعث بها من مسقط إلى أخيه قائلا: "إن أخاك منفي هنا يحاول أن يكسب معركة الصليب التي يخوضها مع عرب الخليج". وقد تنوعت أنشطته التنصيرية في مسقط بين الجولات القصيرة، وزيارة البيوت، والقراءة والوعظ في المقاهي والطرقات. ويمكن التعرف على نوع العمل الذي كان يقوم به في مسقط، وخبراته مع العُمانيين من الرسالة التي بعث بها بتاريخ 22 فبراير إذ قال فيها : ""أديتُ أربعَ خُطب أو خمسٍ طويلةٍ في السُّوق، وهي طبعًا باللُّغة العربيَّة. وقد حَدَثتْ أثناء تلك الخطب مناقشاتٌ وحواراتٌ ذكيَّة، وتمكنتُ بكلِّ المقاييس من فهم الكثير ممَّا قالوه لي. ولا شكُّ في أنَّ مقدرتي على الفهم ستنمو يومًا بعد يوم. لا يمكنني القول بأنَّني التقيتُ بكثيرٍ من المستمعين الَّذين يستمعون بتفكُّر، ومن ثَمَّ يعطونني التَّشجيع المطلوب، أو أنَّني قابلتُ أناسًا طلبوا منِّي نسخًا من الإنجيل والعُهود. هناك الكثير من الابتعاد والحذر، بل في بعض الأحيان معارضةٌ مُرَّةٌ وغاضبة، ولكن ليس بالقدر الَّذي كنتُ أواجهه في لاهور. العرب، حتّـَى البدو أنفسهم، يبدون، بشكلٍ مجملٍ، الأكثر هدوءً وإنصاتًا وتفكُّرًا. يجب عليَّ أن أشكر الرَّبّ، حيث اجتذبتُ في الأسبوعين الأوَّلين الكثير من الانفتاح والانتباه المشوب بالصَّبر على حقائق الإنجيل، وما كنتُ أتوقَّع أن أصل إلى هذا المدى من القَبول".

وقد أوضح فرنش كذلك أن حديثه مع العُمانيين لم يكن مقتصرا على الذين يلتقي بهم عفويا في طرقات مسقط ومطرح، وإنما سمح له بدخول البيوت، والمجالس العامة والمساجد ليقرأ الإنجيل ويفسر معانيه ويناقش المسيحية مع الناس. فقد كتب إلى زوجته في رسالة بتاريخ 9 مايو 1891 قائلا "ستكونين مرتاحةً جدًّا عندما تعلمين كيف -وخلافًا لكلِّ توقُّعاتي- قد سُمح لي بأن أجلس هنا إلى مجموعةٍ من الشُّيوخ المتعلِّمين والمفكِّرين العرب ومعهم أتباعهم. فعلى سبيل المثال، جلستُ البارحة في حَلْقةٍ منهم، وكان شيخهم جالسًا على رأس تلك الحَلْقة، وقد تطرَّقتُ في حديثي إلى عددٍ كثيرٍ من حقائق الوحي المهمَّة. واستمع الحضور إليَّ باهتمامٍ كبيرٍ وجدِّيَّةٍ واضحة… وقد بدأتُ البارحة الحديث إليهم عن مملكة الرَّبّ القادمة وعن المسيح، وقرأتُ لهم كلمات داود الأخيرة في صَامْويلْ الثَّاني رقم (23 المقطع 3 و 4 و 5). والَّتي تعرف الآن بشرَّاح الملك العظيم القادم، القائد وسط الرِّجال، خوف الرَّب، وسيكون كالضَّوء. ثمَّ قرأتُ لهم من أشيعا (35) والزَّبور (72). وقد وَضَّحتُ لهم شيئًا من خصائص هذه المملكة، وكيف أنَّ ملوك الجزيرة العربيَّة وسبأ سيجلبون الهدايا، وقد بدأتْ هذه الأمور بالذَّات تشدُّ انتباههم".

كما وصف فرنش مشاعره عندما تمكن من الدخول إلى أحد البيوت وإتيحت له الفرصة للحديث بود إلى أحد العائلات العمانية لمدة ساعتين. فقد قال: "التقيتُ يوم الخميس أثناء تِجوالي حول مسقط بولد أحد كبار السِّنِّ ومعه رفاقه وسألتهم عن معلم، فاقترح عليَّ الولد الالتقاء بوالده، وأخذني إلى بيتهم. وفي البيت، قدمتْ إليَّ النِّساء بلطفٍ القهوة والحلوى، وشرعنا في مناقشةٍ ودِّيَّةٍ طويلةٍ لمدَّة ساعةٍ ونصف. وهكذا أكون قد تعرفتُ على الشَّيخ الكبير، وتمكنتُ من الدُّخول إلى بيتٍ عربيّ، وهو أمرٌ ضروريٌّ لمداخلاتي مع النَّاس وتحسين معرفتي بهم".

كما ذكر فرنش أن الناس يقدمون له العون والمساعدة بشكل لم يكن يتوقعه ومن أفراد لا يعرفهم. فقد ذكر القصَّة التالية أثناء انتظاره لقاربٍ يُقلُّه من مسقط إلى مطرح: "كانت السَّاعة الثَّانية ظهرًا، وكان البحر هائجًا، ويصعب أن يعبره قاربٌ صغير؛ فقعدتُ بجانب الطَّريق في شارعٍ هادئٍ أقرأ العهد الجديد، ولكن رجلًا عربيًّا خرج من أحد البيوت المجاورة، فجاء إليَّ وبكلِّ كياسةٍ ولطفٍ دعاني أن أصحبه إلى بيته. وفي البيت قدَّم إليَّ القهوة والمرطَّبات، وقرأتُ عليه، وعلى رفقائه شيئًا من مقاطع المخطوطات".

وكتب فرنش عن تقاليد المجالس في عُمان، وكيف أنه في مثل هذه المحافل ناقش ديانته ومعتقداته، يقول "لقد قضيت مساء طويلا في المدينة، ألقيت بعض الخطب بصحبة رجال متعلمون. وقد كان ذلك بشكل أساس في أحد المقاهي كما يبدو لي من شكل المكان أو المجالس كما تسمى هنا".

وقد ذكر القس فرنش أن حديثه مع العُمانيين كان يجري في المساجد التي أتيح له دخولها ومناقشة المواضيع الدينية مع مرتاديها. يقول فرنش: "جلستُ لمدَّة ساعةٍ بعد الظُّهر فيما يبدو لي بأنَّه المسجد الرَّئيس في هذا الجزء من ضواحي مطرح؛ فقاعاته الإضافيَّة مزخرفةٌ، وبه أقسامٌ للعلماء وتابعيهم، ووُضعتْ فيه صفوفٌ من الكراسيّ، أحدها كرسيٌّ إنجليزيٌّ بأذرع. وقد عرض عليَّ الولد اللَّطيف أثناء غياب أبيه الشَّيخ أن أجلس على ذلك الكرسيّ، لكنَّني رفضتُ ذلك قائلاً بأنَّني من الطَّبقة الفقيرة، وتوجد في أحد الجوانب منصَّةٌ من الوسائد. يقع هذا المكان مباشرةً أسفل الصَّالة الَّتي تقام فيها الصَّلاة، والقاعة تظلِّلها بشكلٍ جميلٍ أشجار العنب والنَّخيل، ولم أرَ قطّ مسجدًا مريحًا وفخمًا كهذا، وملابس الشَّيخ وأبنائه، وملابس الإمام كذلك كانت كلّها متشابهةً، طيِّبةً ووسيمة. وقد أخبرتهم بأنَّني جئتُ لأرى رئيس المعلِّمين، وأنَّني أحبُّ كلَّ مَن يحبُّ الله والَّذين يبحثون عن المعرفة الصَّحيحة عنه، وأخبرتهم كذلك باعتبار أنَّ هذا هو الوقت الَّذي نقيم فيه احتفالنا العظيم، وبما أنَّه لا يوجد أحدٌ من إخواني النَّصارى لأقرأ معه، فأنَّني جئتُ لأقرأ الدُّروس أو بعضًا منها بهذه المناسبة مع رئيس المعلِّمين وأصدقائه. وفي تلك الأثناء ظهر الرَّجل العظيم -كان أنيقًا ويرتدي ملابس الأمراء-، وكنتُ قد شرعتُ لحسن الحظّ في قراءة (لوقا 32 و 24)… على كلِّ حالٍ، كان هؤلاء الرِّجال أكثر المستمعين علمًا ومرتبةً تحدثتُ إليهم حتَّى الآن".

وذكر القس فرنش بأنه انتهز بعض الفرص للحديث إلى المعلمين والمعلمات في مدارسهم، يقول: "جرى حديثي الثَّالث في بيت أحد المعلِّمين. فقد قرأتُ معه (لوقا 23 و24)، واستمرَّت القراءة لمدَّة ساعةٍ، جندتُ خلالها بقدر الإمكان اهتمامه وتعاطفه؛ حيث كان الرَّجل شديد الانتباه، ولم يُبدِ أيَّ معارضة. وقد قرأتُ في هذه الأجزاء معاناة المسيح أوَّلاً، ثمَّ بعثه وصعوده، واللِّص التَّائب، ورسالة الإنجيل إلى كلِّ الخلق". وقد مكنته الزيارات التي قام بها إلى المدارس والحديث مع المعلمين من إعطاء صورة عن الوضع التعليم في مسقط، في تلك الحقبة، إذ كتب: "توجد العديد من المدارس في مسقط ومطرح. فالبنات والأولاد يتعلمون، بشكل أساس القران، إلى سن التاسعة أو العاشرة". وقد أورد فرنش في أحد مذكراته زيارة قام بها إلى مدرسة للفتيات في مسقط ونقاش دار بينه وبين أحد المعلمات: "قضيتُ بعد الظُّهر ساعةً في مَدْرَسَة تقوم فيها امرأةٌ عجوزٌ بتدرِيس الفتيات، حيث يوجد عددٌ ليس بالقليل من الفتيات المتعلِّمات هنا. فكثيرٌ من الفتيات تتعلَّم إلى سنِّ العاشرة أو الحاديةَ عشرة؛ لذلك فإنَّ الإناث هنا أكثر تعليمًا من أيِّ مكانٍ آخر رأيتُه. هذه المرأة العجوز تتمتَّع بشخصيَّةٍ مميَّزة، فقد كان لي معها في السَّابق جولتان أو ثلاث جولاتٍ من المناقشات الطَّويلة، وكانت دائمًا تَرجع إلى تعبيرٍ واحدٍ بسيطٍ في القرآن وهو (لَمْ يَلِدْ، وَلَمْ يُوْلَدْ)؛ لذا فإنَّ عبادة ربِّنا لم ولن يمكن أن تجد لها أيَّ مكانةٍ في إيمانهم، إنَّهم بهذه العبارة الواحدة يضعون نقطة الصِّفر الَّتي يرجعون إليها كلَّ التَّعاليم المسيحيَّة". ويبدو أن الشخصية القوية التي تتمتع بهذا هذه المرأة تركت أثرا في نفس القس فرنش؛ فقد كتب عنها في أحد مذكراته قائلا: "لقد التقيت مرة أخرى بالمرأة التي ذكرت سابقا بأني التقيت بها هنا منذ يومين، وقد كانت اليوم في غاية الحماسة لمحمد والقرآن، وقد عرضت علي أن تأتي لتعلمني إياه، وقد وافقت بشرط أن تأتي ومعها زوجها أو أخوها كما يناسبها بالرغم من أنها في سن الستين تقريبا. كما أني اشترطت عليها أن تتعلم مني في الوقت الذي تعلمني فيه القرآن، إن لها شخصية قوية فلم ألتقي في الهند إلا بامرأتين أو ثلاث بمثل شخصيتها، ثنتان منهما مسيحيتان والثالثة سيخية التقيت بها في طريقي إلى أمارناث. إنها لبقة وحاضرة الذهن".

إضافة إلى ذلك فقد لاحظ القس فرنش أن:"النِّساء هنا تقوم بدورٍ أساسيٍّ في معارضة المسيح وكلمة الرَّبّ، وهي علامةٌ فاصلةٌ بين الهند والجزيرة العربيَّة". وقد ذكر أن العُمانيين في الوقت الذي كانوا يستمعون إليه يدعوهم إلى النصرانية كانوا يدعونه من جانبهم إلى اعتناق الإسلام. فقد كتب في أحد رسائله من مسقط: "منذ يومين خلَيا بذل معي حشدٌ كبيرٌ من العرب (نساءٌ واقفات، ورجالٌ جالسون) جهدًا مميتًا لإقناعي بالتَّحوُّل إلى المحمَّديَّة. كانت تجرِبةً جديدةً بالنِّسبة لي، لكنها كانت مفيدةً فقد مكنتني من الفهم بشكلٍ أفضل للشُّعور الَّذي يحسُّ به العربيُّ أو الهندوسيُّ عندما يُطالب بتغيير الدِّين العزيز عليه كالحياة ذاتها. إنَّ الإيمان غالٍ على المسلم كالحياة ذاتها".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ورقة بحثية مقدمة في المؤتمرُ السادس للفكر الإباضي الذي عقد تحت عنوان "الفكر الإصلاحي للمدارس الفكرية الإسلامية في العصر الحديث"، 1-3 يونيو 2015، بمعهد المخطوطات الشرقية بالأكاديمية العلمية الروسية بمدينة سانت بطرسبيرج بجمهورية روسيا الاتحادية.

 

 

 

 

 

 

*المقال من ملحق إشراقة العدد 102 ، نوفمبر 2015م